سيكون يوم السبت 30 جويلية 2016، يوما تاريخيا بامتياز، وسيكتب عنه المؤرخون المعنيون بالشأن الوطني لا محالة كلحظة مفصلية ونوعية في تاريخ الجمهورية الثانية، التي تأسّست على ضوء دستور 26 جانفي 2014، وولدت من رحم ثورة الحرية والكرامة 17 ديسمبر2010- 14 جانفي 2011 بعد مخاض عسير دام زهاء أربع سنوات، فلأوّل مرة منذ الاستقلال المجيد سنة 1956 تختار حكومة الذهاب إلى البرلمان لاجتياز اختبار ثقة حقيقي، ولأول مرة سيمارس نوّاب الشعب دورهم كنواب حقيقييّن مسؤولين فعلا عن تمثيل الأمّة والعمل على صون مصالحها العليا والحفاظ على نظامها البرلماني الجمهوري الديمقراطي.
لأوّل مرة إذن، سيتابع شعبنا مشهدا لا ينتمي إلى موروثنا السلطاني الرئاسوي الموغل في الفردية، وذلك ما أراد تسجيله رئيس الحكومة عندما فضّل الاحتكام للدستور، خصوصا فصله الثامن والتسعين، باعتباره أحد المؤتمنين الكبار على احترامه وتطبيقه، ومن باب سعيه المخلص إلى مراكمة تقاليد جديدة في الحكم، من شأنها المساهمة في إنجاح ديمقراطيتنا الناشئة في الأمد المنظور وبصرف النظر عن عثرات الحاضر وهناته وصعوباته وتحدياته وأمراضه وعقده ومؤامراته.
وسيكون اليوم المشهود مناسبة لرئيس الحكومة لتقديم بيان واضح جليّ للناس يوجز فيه حصيلة عام ونصف من المسؤولية الجسيمة وحمل الأمانة الكبرى، مسبوقا في الأمر بحملات شعواء دامت أسابيع طويلة، انخرطت فيها بكل حماس أحزاب وأقوام وجماعات وأطياف وفئات ولوبيات، تعدّدت نواياها وتباينت مرجعيّاتها وتوحّدت مصالحها وأهواؤها على وصم المسيرة بالفشل الذريع ووصف حال البلد بالمفزع الشنيع، دونما مراعاة في الغالب – إلاّ لمن شذ عن القاعدة- للإكراهات الموضوعية التي أحاطت بالتجربة، أو تقدير وامتنان للإنجازات غير القليلة التي رصدها الخبراء المنصفون واعترف بها الشركاء أشقاء وأصدقاء، شكّلت نصف الكأس الملآن مثلما يحبّ قائد هذه التجربة العسيرة الإشارة..
لقد أحببت من باب الشهادة لله والوطن والشعب، وللتاريخ وعليه، ومن منطلق الشراكة الكاملة في تحمّل المسؤولية، الإخفاقات قبل الإنجازات، أن أساهم في تبيين ما يسهّل على المتابعين العمل بالعقل والقسط وإعمال الميزان، الذي به ضرب الله المثل في العدل وأمر عبيده بالتزامه إن كانوا من المتّقين، فلهذه الحكومة أقول، إكراهات أثّرت في حصادها، غالبيتها لا صلة لها بها، وإنجازات ستزداد وضوحا بلا ريب في الأيام القادمة، ذلك أن عمل الحكومات أشبه ما يكون بعمل الفلاّحين، لا ينتظرون غلّة وثمارا إن لم يحرثوا الأرض ويمهّدوها ويسمّدوها ويبذروها ويسقوها ويرعوها حتى تظهر سنابلها وتنضج بشمسها وتحفظ من ريحها وتصل سالمة بفضل من الله ونعمة إلى بيادرها، أو عمل البنائين، يستغرقون شوطا في إقامة أسس البناء وقواعده حتى يظهر البناء شامخا وتبدو الجدران والأسقف صاعدة متينة تسرّ الناظرين، ولا يمكن لعاقل أن يقيّم مسيرة فلاّح عند الحرث أو البذر أو السقاية، أو مسيرة البنّاء عند الجهر للقواعد أو تشييد الأسس تحت الأرض، فذلك من شيم الظالمين، وهو ما مال إليه بعضنا للأسف عن جهل أو غفلة أو أنانية.
إن سرعة السيّارة لا تقيّم فقط بالرقم الّذي أدركته، فسرعة أربعين كيلومترا في الساعة في حالات معيّنة قد تكون سرعة قصوى إن كان السير يجري في طريق جبلية وعرة محفوفة من الجانبين بالخنادق ومتّسمة بكثرة المنعرجات الوعرة، وبالمقابل فإن سرعة مائة وخمسين كيلومترا في حالات أخرى، يتم السير خلالها في طريق ممهّدة بلا عقبات أو منقلبات ستكون سرعة عادية لا بطولة فيها ولا إشادة تستحق لصاحبها، ولهذا فإن أي تقييم يرنو إلى أن يكون موضوعيا للعمل الحكومي، يجب أن يأخذ بعين النظر طبيعة الطريق التي تسلكها السيّارة الوطنية، حفاظا عليها وصونا لحمولتها، قبل أن يكون للأمر صلة باحترام مستحقّ لقائد المركبة أو إشادة بخصاله الرفيعة وقدراته المميّزة وحسن تقديره لظروف الطريق الوعرة والسرعة المطلوبة والامتثال لقانون السير والحفاظ على سلامة الراكبين وأمتعتهم وتوجيههم الوجهة الصحيحة التي يتطلعون جميعا إلى إدراكها في النهاية، كما أن السير بالبلاد في الطريق الصحيحة وإن كان بسرعة بطيئة، خير من السير بها في طريق خاطئة وبسرعة فائقة، فالطريق إلى الجنّة محفوف بالمخاطر أمّا الطريق إلى جهنّم فمحفوف بالشهوات كما ورد في الحديث الشريف.
لقد عملت هذه الحكومة منذ تشكّلها في 6 فيفري 2015، ضمن سياقات كبرى ثلاثة، هي المصالحات والإصلاحات والمشاريع الكبرى، راسمة لنفسها أهدافا واقعية وواضعة لنشاطها برنامجا عمليا، إذ حرص رئيس الحكومة منذ اليوم الأول على عدم المبالغة في الطموح والتزام المصداقية قولا وفعلا، تقديرا منه للصعوبات الناجمة عن تركة الماضي الصعبة والمعقّدة، ومراعاة منه لواقع قانوني وسياسي وأخلاقي لم يستقر بعد، وأخذا بعين الاعتبار تداعيات الأزمات الإقليمية والدولية المستفحلة على الساحة الوطنية الهشّة، تماما كحرصه على ربط السياسة بالأخلاق بحبل متين، ووعيه بتغيّر الأحوال وبما يستدعيه ذلك من بلورة مفاهيم جديدة لمقاربات أساسية في الحكم من قبيل هيبة الدولة وفرض القانون وصناعة التنمية، حيث تغيّرت طبيعة النظام واختارت الأمّة السير في طريق الديمقراطية التوافقية التشاركية وعاد مركز القرار بفعل الدستور موزّعا على عدد من مراكز القوى وعادت للمواطنة صيغة أخرى تقوم على القناعة الذاتية قبل الخوف من القوة الردعية للسلطة، ومن هنا كان لا بد لمن يحكم تونس الراهنة أن يكون مدركا لكل هذه المعاني وأن يكون في قلبه رحمة وأن تكون أدوات ممارسته للحكم نزيهة وشريفة وشفافة وقانونية وإنسانية وأخلاقية، لا أن يكون مقلّدا لله في جبروته أو مستبدا يرتدي جبّة ديمقراطية.
إن نظرة عميقة لحال أمّتنا ستفضي لا محالة إلى الانتباه إلى سبعة إكراهات رئيسية شكّلت عقبات ومنغّصات الطريق وجعلت الحد من السرعة مطلبا تقتضيه الشجاعة والوطنية والحكمة والحوكمة وحسن الإدارة، حفظا كما أشير للسيّارة وركّابها وحمولتها، وهي كما يلي بإيجاز شديد: أولا: الجماعات الإرهابية الدموية الغادرة التي فرضت على البلاد حربا حقيقية ظالمة، وثانيا: الأحزاب الضعيفة المنهكة المنقسمة عديمة المؤسسات والخبرة، الطاردة للكفاءات غالبا، ومزاجية القرار في أحيان كثيرة، والمتضاربة المصالح فيما بينها، والتي لم تساعد على استقرار العمل الحكومي أبدا، وثالثا: التركة الاجتماعية الثقيلة العائدة إلى أسباب هيكلية تعود في جذورها إلى أكثر من عقدين من الزمان على الأقل والتي تحتاج كما قال رئيس الحكومة ذات مرّة إلى صبر أيوب ومال قارون لحلّها، ورابعا: لوبيات الفساد التي استغلت فترة ضعف الدولة خلال السنوات الماضية واستطاعت أخذ نفس والإفلات من العقاب والتحول إلى فاعل أساسي في المشهد السياسي مستغلة ثغرات الديمقراطية ونقاط ضعفها، وخامسا: الانقسام الايديولوجي بين إسلاميين وعلمانيين وعمّال وأعراف وتقدميين ورجعيين وما يستتبع ذلك من أزمة أخلاقية وهشاشة نخبوية جعلت العملة السيئة تطرد العملة الحسنة، وسادسا: الثقافة الرئاسية التي فرضت رغبة البعض في تجاوز الدستور وعمقت الشكيزوفرينيا في الحياة السياسية، وسابعا وأخيرا: الأزمة الاقتصادية والمالية الإقليمية والعالمية التي فرضت على تونس خيارات صعبة وضيّقت عليها مجالات الحركة التنموية والاستثمارية.
وعلى الرغم من هذه الإكراهات، حريّ بكل مقيّم موضوعي ومنصف أن يرصد لهذه الحكومة سبعة إنجازات رئيسية هي كما يلي: أوّلا: انتصارها على الجماعات الإرهابية وقلبها للمعادلة الأمنية فالأمن والاستقرار يظلّان قاعدة أي تنمية ممكنة، وثانيا: استئناف العمل في جميع المشاريع المعطّلة خصوصا مشاريع البنية التحتية ولا يمكن فك عزلة المناطق الداخلية أو إطلاق تجربة تنموية شاملة وعادلة دون بنى تحتية عصرية وملائمة، وثالثا: تحقيق السلم الاجتماعي من خلال ترضية غير مسبوقة للطبقات المتوسطة والفقيرة وزيادات محفّزة للأجراء في القطاعين العام والخاص رغم صعوبة الظرفية، ورابعا: الحفاظ على التوازنات الكبرى رغم كل ما يقال من مبالغات غير دقيقة، سواء تعلق الأمر بالتضخّم أو البطالة أو المديونية أو سعر العملة الوطنية أو العجز في الميزانية..إلخ، وهو أمر تثبته الإحصائيات والأرقام والمقارنات بما كان قائما في السنوات الخالية، وخامسا: استكمال الانتقال الديمقراطي والحفاظ على النسق الإصلاحي من خلال العمل على بناء ما بقي من المؤسسات الدستورية وتشريع عشرات من القوانين الثورية الجديدة، وسادسا: إدارة الاختلاف والتنوع بطريقة ديمقراطية تشاركية حضارية خفّفت من حدة الصراعات وجنّبت تداعيات ذلك مؤسسات الحكم والدولة، وسابعا وأخيرا ( وليس آخرا): قيادة تونس إلى مزيد من الإشعاع الإقليمي ودولي كنموذج ناجح في الانتقال الديمقراطي المدني السلمي المبشّر بغد أفضل لشعوب المنطقة والعالم، والمنخرط بكل إيجابية في إيجاد حلول ناجعة للصراعات المدمّرة الدائرة في البلدان الشقيقة، نموذج استحقّ التتويج بأعلى الأوسمة، ففي عهد هذه الحكومة وعلى رغم من حصيلتها المتواضعة كما يقال، نال الشعب التونسي أرفع جائزة في الدنيا، جائزة نوبل للسلام، وهو أمر لا يملك أحد القدرة على محوه من سجلاّت التاريخ.
وليس لي إلاّ أن أختم بقول الله تعالى مثلما ابتدأت: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَـَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ. ﴿126 البقرة﴾ .